فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



رابعها: أن علم الله لا يسبقه جهلٌ، وعلم غيره مسبوق بالجهل.
وبهذه الأمور وغيرها يظَلُّ علم الله سبحانه في قدسيّته وشموله وصدقه لا يُدانيه فيه مخلوق من مخلوقاته. قال تعالى: {وعنْدَهُ مَفاتحُ الغَيْب لا يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ} (سورة الأنعام: 59)، وقد بين الحديث هذه المَفاتح بقوله تعالى: {إنَّ اللهَ عندَه علم السّاعة} كما رواه البخاري فعلمها قاصر عليه وحده لا يَعلَمُها إلاّ هُوَ وذلك على الوجه المُبين فيما تقدّم.
والله أعلم هناك نوعان من كروموزومات الجنس. أما الذي في بويضة المرأة فهو دائمًا من النوع المسمى X وأما منويات الرجل فبعضها يحمل Xوالآخر يحمل Y وكلاهما موجود بأعداد وفيرة مختلطين في القذيفة المنوية الواحدة. فإن قدر أن يلقح البويضة منوي يحمل X كان كروموزوما الجنس في الجنين الناتج XX وهذا الجنين أنثى. وإلا فهما X Y وهذا الجنين ذكر.
دار البحث ولا يزال عما تختلف فيه المنويات حاملة X عن تلك حاملة Y من خصال. وثبت أنهما يختلفان في الكتلة وفي سرعة الحركة وفي الأثر الكهربي وفي القدرة على اقتحام وسط لزج واجتيازه وفي درجة نشاطها باختلاف التفاعل الكيميائي للبيئة المحيطة. واستخدمت هذه الفروق في إتاحة الفرصة لأحدهما دون الآخر في أن يكون السابق إلى تلقيح البويضة ومن ثم اختيار جنس الجنين الناتج.
وقد تم تطبيق ذلك فعلًا في صناعة تربية الحيوان. حيث تتم تهيئة الظروف المرغوبة وإجراء التلقيح الصناعي للإناث والحصول على مواليد من الجنس المنشود إن لم يكن دائما فبنسبة عالية.
ولم يتم ذلك في الإنسان حتى الآن. لأسباب أهمها أن من الصعب إخضاع الطبيعة الإنسانية لظروف التجربة الحيوانية من منع عن الجنس لفترات طويلة تكتنفها تلقيحة صناعية واحدة. ولكن أصبح في حيز الاحتمال أن يصل العلم إلى المزيد في هذا الشأن. بل إن بعض السيدات تتحايل على ذلك بمعرفة نوع الجنين الذي في أرحامهن بشفط جزء من السائل الرحمي الذي حول الجنين وفحص ما فيه من خلاياي الجنين المنفوضة فإن لم يكن الجنين من الجنس المراد طلبن من الطبيب إجهاضه وذلك في البلاد التي تبيح الإجهاض. على أن رأينا نحن واضح في أن الإجهاض حرام.
ولكن ماذا لو تم التغلب على الصعوبات الباقية بغير إجهاض وهذا أمر محتمل؟
وفي مهنتي أرى أم البنات تريد أن تحدد عدد أطفالها ولكنها تزيد وتزيد في انتظار الذكر المنشود. فهل إن استطاعت من البدء إنجاب الذكر أفضى ذلك إلى تقليل التناسل؟
وهل يجنح الأغنياء إلى إنجاب الذكور حرصًا على الثروة أن تخرج من الأسرة إن ورثت البنت وانضمت بما تملك إلى زوج غريب يحمل أولاده منها اسمه واسم أسرته ثم تؤول إليهم أملاك أمهم بالوراثة؟
أو أن الإنسان إن حاول أن يأخذ على عاتقه مهمة الطبيعة الحكيمة بعيدة النظر في توزيع الجنس آل به الأمر إلى أن يفسد حيث ظن أنه يصلح كما فعل من قبل وهو يعبث بالتوازن الحيوي على هذه الأرض.
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لا ريب أن هذه القضايا قضايا خطيرة تستحق الاهتمام من المشتغلين بفقه الشريعة وبيان أحكامها وخصوصًا إذا كانت في حيز الإمكان القريب كما يؤكد الأطباء وإن كان من فقهاء السلف رضي الله عنهم من جعل نهجه رفض الإجابة عما لم يقع بالفعل من الحوادث المسئول عنها حتى لا يجري الناس وراء الافتراضات المتخيلة مما لا يقع مثله إلا شاذًا بدل أن يعيشوا في الواقع ويبحثوا عن علاج لأدوائه.
فعن ابن عمر قال: لا تسألوا عما لم يكن: فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن.
وكان بعضهم يقول للسائل عن أمر: أوقد وقع؟ فإن وقع أجابه. وإلا قال له: إذا وقع فاسأل.
وكانوا يسمون من سأل عما لم يقع: أرأيتيًّا نسبة إلى قوله: أرأيت لو كان كذا وحدث كذا. إلخ.
قال الشعبي إمام الكوفة في عصر التابعين: والله لقد بغّض هؤلاء القوم إليّ المسجد. قلت: من هم يا أبا عمر؟ قال: الأرأيتيون.
وقال: ما كلمة أبغض إليّ من أرأيت.
ويمكننا أن نقتدي بهؤلاء الأئمة ونقول للسائل: دع الأمر حتى يقع بالفعل فإذا حدث أجبنا عنه ولا نتعجل البلاء قبل وقوعه.
وما يدرينا؟ لعل عقبات لم يحسب العلماء حسابها أو قدروا في أنفسهم التغلب عليها. تقف في طريقهم فلا يستطيعون تنفيذ ما جربوه في بعض الحيوان على نوع الإنسان.
ولكنا- مع هذا- نحاول الجواب لأمرين:
الأول: إن موجه السؤال يعتقد أن الأمر وشيك الوقوع وليس من قبيل الفروض المتخيلة التي كان يسأل عن مثلها الأرأيتيون فلابد أن نتهيأ لبيان حكم الشرع فيما يترتب عليها من آثار لم يسبق لها نظير في الحياة الإسلامية بل الإنسانية.
الثاني: إن السؤال فيما أرى أيضًا فيما يتضمن بحث مشروعية هذه الأعمال المطروحة للاستفتاء: أتدخل في باب الجائز أم المحظور؟.
قضية اختيار الجنس:
أما قضية اختيار جنس الجنين من ذكورة وأنوثة فهي تصدم الحس الديني لأول وهلة وذلك لأمرين:
الأول: أن علم ما في الأرحام للخالق سبحانه لا للخلق. قال تعالى: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد} وهو من الخمسة التي هي مفاتيح الغيب المذكورة في آخر سورة لقمان {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام}.
فكيف يدعي بشر أنه يعلم جنس الجنين ويتحكم فيه؟
الثاني: أن ادعاء التحكم في جنس الجنين تطاول على مشيئة الله تعالى التي وزعت الجنسين بحكمة ومقدار وحفظت التوازن بينهما على تطاول الدهور واعتبر ذلك دليلًا من أدلة وجود الله تعالى وعنايته بخلقه وحسن تدبيره لملكه.
يقول تعالى: {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير}.
ولكن لماذا لا يفسر علم ما في الأرحام بالعلم التفصيلي لكل ما يتعلق بها؟ فالله يعلم عن الجنين: أيعيش أم يموت؟ وإذا نزل حيا: أيكون ذكيًا أم غبيًا ضعيفًا أم قويًا سعيدًا أم شقيًا؟ أما البشر فأقصى ما يعلمون: أنه ذكر أو أنثى.
وكذلك يفسر عمل الإنسان في اختيار الجنس: أنه لا يخرج عن المشيئة الإلهية بل هو تنفيذ لها. فالإنسان يفعل بقدرة الله ويشاء بمشيئة الله {وما تشاءون إلا أن يشاء الله}.
وفي ضوء هذا التفسير قد يرخص الدين في عملية اختيار الجنس ولكنها يجب أن تكون رخصة للضرورة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة وإن كان الأسلم والأولى تركها لمشيئة الله وحكمته {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة} والله أعلم.
يقول الأستاذ الدكتور عجيل النشمي أستاذ الشريعة الإسلامية بالكويت:
هذا سؤال أجابت عنه ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام التي عقدت في الكويت 11 شعبان 1403هـ الموافق 24 مايو 1983م ونبدأ ببيان الجانب العلمي ليمكن تصور الموضوع ثم بناء الحكم الشرعي عليه.
هناك إنجازان علميان في الموضوع:
الأول: معرفة جنس الجنين ذكرًا أو أنثى بواسطة شفط بعض السائل المحيط به من الرحم وفيه بعض خلايا الجنين من سطح جسمه وتُفحص هذه الخلايا ومنها يعرف جنس الجنين.
الثاني: اكتشاف الاختلاف بين المنوي المفضي للذكورة والمنوي المفضي للأنوثة في طائفة من الصفات كالكتلة والسرعة والقدرة على اختراق المخاط اللزج في قناة عنق الرحم وغير ذلك.
وقد تم هذا في النطاق الحيواني ويطبق في صناعة تربية الحيوان وذلك بتحضير كمية كبيرة من السائل المنوي تجمع من عدد كبير من الفحول أمكن فصلها قسمين: أحدهما ترجح فيه المنويات المفضية إلى الأنوثة والآخر ترجح فيه المنويات المفضية إلى الذكورة وباستعمال أحد القسمين في التلقيح الصناعي للإناث أمكن أن يميل ميزان الفردية من النسبة الطبيعية وهي نحو 50% لكل جنس إلى نسبة 70% في اتجاه الجنس المطلوب.
وأما من الناحية الفقهية فإن الموضوع لا يدخل في باب العقيدة مطلقًا بل يجب أن نعتقد أن كل ما يتوصل إليه الإنسان إنما هو بإرادة الله وعلمه فلو فرضنا أن طبيبًا أو مجموعة من الأطباء غير المسلمين توصلوا إلى قضية التحكم في نوع الجنين فهل معنى هذا أن إرادتهم وعلمهم غلب إرادة الله وعلمه؟!
لا يحق لمسلم أن يعتقد هذا وإلا خرج من الملة والدين والعياذ بالله فإرادة الله هي الغالبة لا ريب والنتيجة النهائية التي تحصل هي إرادة الله والله عز وجل هو الذي أقدرنا على ذلك فالمسألة ليست عقائدية قطعًا وإنما هي: هل حلال أن نفعل ذلك أم حرام؟ ومن ناحية أخرى فإن هذا الموضوع ليس فيه تغيير لخلق الله فالحيوان المنوي هو الحيوان المنوي والبويضة هي البويضة وإنما هناك تدخل من الإنسان في أن تلقح هذه البويضة بنوع من الحيوان المنوي فهنا لا تغيير لخلق الله تبارك وتعالى والله له الخلق والأمر والحيوان المنوي خلقه والبويضة خلقه والموضوع يدخل في قضية الأحكام.
والتحكم إذا خلا من المقاصد الفاسدة والشريرة فهو من باب أخذ الأسباب والمعالجات التي تكون قبل الحمل كتحديد موعد التقاء الزوجين أو أخذ أدوية معينة وقد أباح الإسلام العزل وهو نوع من التحكم ومن ناحية أخرى أجاز الإسلام أن يدعو المسلم ربه أن يرزقه ذكرًا أو أنثى وقد سأل نبي الله زكريا عليه السلام أن يرزقه الله ذكرًا فقال: {فهب لي من لدنك وليا (5) يرثني} (مريم) فلا مانع من الحرص على ذلك والدعاء به وإن من المقرر: أن ما يحرم فعله يحرم طلبه وأن من شروط الدعاء ألا يسأل أمرًا محرمًا. ومن جانب آخر يثبت ألا منافاة لفعل التحكم مع إرادة الله إن مراد الله لا يُعرف للإنسان إلا بعد وقوعه وإرادته تمضي طبقًا لما يشاء سبحانه ولا راد لأمره وهذا مقتضى العقيدة الإيمانية الصحيحة في مسألة القضاء والقدر فالعلم بالمقدور علمًا سابقًا لوقوعه هو ما اختص الله به ولا يتخلف عنه القضاء الواقع وإن الذي يقع فعلًا هو المقدور المغيب وما قواعد الوراثة إلا نظم وأسباب كونية أودعها الله في مخلوقاته ويرفعها متى تعلقت بذلك إرادته.
وقد يتوهم البعض أن التحكم في جنس الجنين مصادم لقوله تعالى: {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما} (الشورى) وطبقًا لما سبق من بيان أن المسلم يعتقد أن إرادة الله ومشيئته هي النافذة فلا تصادم مع الآية ولذلك جاز أن تذهب المرأة أو الرجل إلى الطبيب لعلاج العقم أخذًا بالأسباب.
ومن جانب آخر فإن عمل ذلك على نطاق فردي لا شيء فيه مثل العزل أو تنظيم النسل ولكن يصبح قضية خطيرة إذا كان على نطاق عام يشمل المجتمع كتقنين معين فالعزل أو تنظيم النسل جائز في الحالات الفردية لكنه لا يجوز تعميمه باعتباره قانونًا عامًا وقد جاء في توصيات ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام في موضوع التحكم ما يلي: اتفقت وجهة النظر الشرعية على عدم جواز التحكم في جنس الجنين إذا كان ذلك على مستوى الأمة أما على المستوى الفردي فإن محاولة تحقيق رغبة الزوجين المشروعة في أن يكون الجنين ذكرًا أو أنثى بالوسائل الطبية المتاحة: فلا مانع منها شرعًا عند بعض الفقهاء المشاركين في الندوة في حين رأى غيرهم عدم جوازه خشية أن يؤدي إلى طغيان جنس على جنس. والذي يظهر لنا والله أعلم أن عملية التحكم أو الاصطفاء لجنس معين هو في ذاته عمل طبي لا تلحقه الحرمة إلا إذا أفضى إلى محرم لأنه يصبح حينئذ وسيلة وطريقًا للحرام فيأخذ حكمه.
وهو إذا طبق على نطاق عام كان ذريعة إلى فساد فيما قد يحدثه الناس من فوضى واختلال في توازن الذكورة والأنوثة. وأما إذا طبق على نطاق فردي وكان قبل الحمل فلا مانع منه. والله أعلم.
وأما ما ورد في السؤال عما إذا كان هناك مصادمة وتعارض لعلم الطب اليوم لنوع الجنين ذكرًا أو أنثى مع قوله تعالى: {ويعلم ما في الأرحام} (لقمان: 34) فيجاب بأنه لا تعارض إطلاقًا بين علم الطب لنوع الجنين وعلم الله عز وجل ومثل هذه الآية قوله تعالى: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار (8) عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال (9)} (الرعد).
فعلم الله عز وجل ليس محصورا في معرفة ما في الأرحام من الذكورة أو الأنوثة وإنما يشمل كل ما يتعلق بما في الرحم هل سيعيش هذا الجنين أم سيموت؟! هل سيكون سعيدا أم شقيا؟!. إلى آخر ذلك وأما علم الإنسان فمحصور في معرفة أنه ذكر أو أنثى وهذا العلم بإرادة الله ومشيئته عز وجل فهو الذي مكن الإنسان أن يصل بعلمه إلى ذلك: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} (الإنسان: 30). اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة}.
هي تسخير ما في السموات وما في الأرض من الأجسام العلوية والسفلية، البسطية والمركبة. وباطنة هي تسخير ما في سموات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية بأن يسر العيون عليها بالسكون المتدارك بالجذبة والانتفاع بمنافعها والاجتناب عن مضارها. وتسخير ما في أرض النفوس من أضداد الأخلاق المذكورة بتبديلها بالحميدة والتمتع بخواصها والتحرز عن آفاتها. {ثم نضطرهم} لفساد استعدادهم {تجري في البحر بنعمة الله} سلامتهم في الظاهر معلومة، وأما في الباطن فنجاتهم بسفائن العصمة من بحار القدرة أو بسفينة الشريعة بملابسة الطريقة في بحر الحققة لإراءة آيات شواهد الحق، وإذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم نفحات الألطاف إلى سواحل الأعطاف. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في السورة الكريمة: {الم} [لقمان: 1] إشارة إلى آلائه تعالى ولطفه جل شأنه ومجده عز وجل: {الذين يُقيمُونَ الصلاة} بحضور القلب والإعراض عن السوي وهي صلاة خواص الخواص، وأما صلاة الخواص فبنفي الخطرات الردية والإرادات الدنيوية ولا يضر فيها طلب الجنة ونحوه، وأما صلاة العوام فما يفعله أكثر الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم {وَيُؤْتُونَ الزكواة} [لقمان: 4] ببذل الوجود للملك المعبود لنيل المقصود وهي زكاة الأخص، وزكاة الخاصة ببذل المال كله لتصفية قلوبهم عن صدإ محبة الدنيا، وزكاة العامة ببذل القدر المعروف من المال المعلوم على الوجه المشروع المشهور لتزكية نفوسهم عن نجاسة البخل {وَمنَ الناس مَن يَشْتَرى لَهْوَ الحديث} [لقمان: 6] هو ما يشغل عن الله تعالى ذكره ويحجب عنه عز وجل استماعه، وأما الغناء فهو عند كثير منهم أقسام منها ما هو من لهو الحديث، ونقل بعضهم عن الجنيد قدس سره أنه قال: السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم، وعن أبي بكر الكناني سماع العوام على متابعة الطبع وسماع المريدين رغبة ورهبة وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعم وسماع العارفين على المشاهدة وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان ولكل من هؤلاء مصدر ومقام، وذكروا أن من القوم من يسمع في الله ولله وبالله ومن الله جل وعلا ولا يسمع بالسمع الإنساني بل يسمع بالسمع الرباني كما في الحديث القدسي «كنت سمعه الذي يسمع به» وقالوا: إنما حرم اللهو لكونه لهوًا فمن لا يكون لهوًا بالنسبة إليه لا يحرم عليه إذ علة الحرمة في حقه منتفية والحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، ويلزمهم القول بحل شرب المسكر لمن لا يسكره لاسيما لمن يزيده نشاطًا للعبادة مع ذلك، ومن زنادقة القلندرية من يقول بحل الخمر والحشيشة ونحوها من المسكرات المحرمة بلا خلاف زاعمين أن استعمال ذلك يفتح عليهم أبواب الكشوف، وبعض الجهلة الذين لعب بهم الشيطان يطلبون منهم المدد في ذلك الحال قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} [لقمان: 2 1] قيل: هي إدراك خطاب الحق بوصف الإلهام، وذكروا أن الحكمة موهبة الأولياء كما أن الوحي موهبة الأنبياء عليهم السلام فكل ليس بكسبي إلا أن للكسب مدخلًا ما في الحكمة، فقد ورد من أخلص لله تعالى أربعين صباحًا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه والحكمة التي يزعم الفلاسفة أنها حكمة ليست بحكمة إذ هي من نتائج الفكر ويؤتاها المؤمن والكافر وقلما تسلم من شوائب آفات الوهم، ولهذا وقع الاختلاف العظيم بين أهلها وعدها بعض الصوفية من لهو الحديث ولم يبعد في ذلك عن الصواب، وأشارت قصة لقمان إلى التوحيد ومقام جمع الجمع وعين الجمع واتباع سبيل الكاملين والإعراض عن السوي وتكميل الغير والصبر على الشدائد والتواضع للناس وحسن المماشاة والمعاملة والسيرة وترك التماوت في المشي وترك رفع الصوت، وقيل: {الحمير} في قوله تعالى: {إنَّ أَنكَرَ الاصوات لَصَوْتُ الحمير} [لقمان: 19] هم الصوفية الذين يتكلمون بلسان المعرفة قبل أن يؤذن لهم، وطبق بعضهم جميع ما في القصة على ما في الأنفس {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظاهرة وَبَاطنَةً} قال الجنيد: النعم الظاهرة حسن الأخلاق والنعم الباطنة أنواع المعارف، وقيل: على قراءة الأفراد النعمة الظاهرة اتباع ظاهر العلم والباطنة طلب الحقيقة في الاتباع، وقيل: النعمة الظاهر نفس بلا زلة والباطنة قلب بلا غفلة.
{ومنَ الناس مَن يجادل في الله بغَيْر علْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنيرٍ} [لقمان: 0 2] يشير إلى أهل الجدل من الفلاسفة فإنهم يجادلون في ذات الله تعالى وصفاته عز وجل كذلك عند التحقيق لأنهم لا يعتبرون كلام الرسل عليهم الصلاة والسلام ولا الكتب المنزلة من السماء وأكثر علومهم مشوب بآفة الوهم ومع هذا فشؤون الله جل وعلا طور ما وراء طور العقل.
هيهات أن تصطاد عنقاء البقا ** بلعابهن عناكب الأفكار

وأبعد من محدب الفلك التاسع حصول علم بالله عز وجل وبصفاته جل شأنه يعتد به بدون نور إلهي يستضىء العقل به وعقولهم في ظلمات بعضها فوق بعض، وقد سدت أبواب الوصول إلا على متبع للرسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم مخاطبًا لحضرة صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام:
وأنت باب الله أي امرىء ** أتاه من غيرك لا يدخل

{ذلك بأَنَّ الله هُوَ الحق} إلى قوله سبحانه: {وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير} [لقمان: 30] فيه إشارة إلى أنه سبحانه تمام وفوق التمام، والمراد بالأول من حصل له كل ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى: {هُوَ الحق} والمراد بالثاني من حصل له ذلك وحصل لما عداه ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى: {هُوَ العلى الكبير} ووراء هذين الشيئين ناقص وهو ما ليس له ما ينبغي كالصبي والمريض والأعمى ومكتف وهو من أعطى ما تندفع به حاجته في وقته كالإنسان الذي له من الآلات ما تندفع به حاجته في وقته لكنها في معرض التحلل والزوال {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} [لقمان: 4 3] الآية ذكر غير واحد حكايات عن الأولياء متضمنة لإطلاع الله تعالى إياهم على ما عدا علم الساعة من الخمس وقد علمت الكلام في ذلك، وأغرب ما رأيت ما ذكره الشعراني عن بعضهم أنه كان يبيع المطر فيمطر على أرض من يشتري منه متى شاء، ومن له عقل مستقيم لا يقبل مثل هذه الحكاية، وكم للقصاص أمثالها من رواية نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من اعتقاد خرافات لا أصل لها وهو سبحانه ولي العصمة والتوفيق. اهـ.